سورة الحجرات - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


قوله تعالى: {يا أيَّها الذين آمَنوا لا تُقَدِّموا بينَ يَدَيَ الله ورسولِه} في سبب نزولها أربعة أقوال.
أحدها: أن رَكْباً من بني تميم قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أَمِّرِ القعقاعَ ابنَ معبد، وقال عمر: أَمِّرِ الأقرعَ بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردتَ إِلا خِلافي، وقال عمر: ما أردتُ خلافَك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتُها فنزل قوله: {يا أيُّها الذين آمَنوا لا تُقَدِّموا بين يَدَيِ اللهِ ورسولِه} إلى قوله: {ولَوْ أنَّهم صَبَروا} فما كان عمرُ يسْمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، رواه عبد الله بن الزبير.
والثاني: أن قوماً ذَبحوا قبل أن يُصَلِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ النَّحر، فأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُعيدوا الذَّبح، فنزلت الآية، قاله الحسن.
والثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يقولون: لو أنزَلَ اللهُ فِيَّ كذا وكذا! فكَرِه اللهُ ذلك، وقدَّم فيه، قاله قتادة.
والرابع: أنها نزلت في عمرو بن أميّة الضّمْري، وكان قد قتل رجُلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسُّنَّة. وروى العوفي عنه قال: نُهو أن يتكلمَّوا بين يَدَيْ كلامه. وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصومَ نبيُّكم. ومعنى الآية على جميع الأقوال: لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل. قال ابن قتيبة: يقال فلانٌ يُقَدِّم بين يَدَيِ الإِمام وبين يَدَي أبيه، أي يُعجِّل بالأمر والنهي دونه.
فأمّا {تُقدِّموا} فقرأ ابن مسعود وأبو هريرة، وأبو رزين، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والضحاك وابن سيرين، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب: بفتح التاء والدال؛ وقرأ الباقون: بضم التاء وكسر الدال. قال الفراء: كلاهما صواب، يقال: قَدَّمْتُ وتَقَدَّمْتُ؛ وقال الزجاج: كلاهما واحد؛ فأمّا {بينَ يَدَيِ اللهِ ورسولِهِ} فهو عبارة عن الأمام، لأن ما بين يَدَيِ الإِنسان أمامَه؛ فالمعنى: لا تَقَدَّموا قُدّام الأمير.
قوله تعالى: {لا تَرْفَعوا أصواتَكم} في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفاً في حديث ابن الزبير، وهذا قول ابن أبي مليكة.
والثاني: أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس، وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوت، فربما كان إِذا تكلَّم تأذَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصوته، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {ولا تَجهر له بالقَوْلِ} فيه قولان:
أحدهما: أن الجهر بالصَّوت في المخاطبة، قاله الأكثرون.
والثاني: لا تَدْعوه باسمه: يا محمد، كما يدعو بعضُكم بعضاً، ولكن قولوا: يا رسول الله، ويا نبيَّ الله، وهو معنى قول سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل.
قوله تعالى: {أن تَحْبَطَ} قال ابن قتيبة: لئلا تَحْبَطَ. وقال الأخفش: مَخافة أن تَحْبَطَ. قال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل معنى الإحباط هاهنا: نقص المَنْزِلة، لا إِسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر.
قوله تعالى: {إِن الذين يَغُضُّونَ أصواتَهم} قال ابن عباس: لمّا نزل قوله: {لا ترفعوا أصواتكم} تألَّى أبو بكر أن لا يكلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إِلاّ كأخي السّرار، فأنزل اللهُ في أبي بكر: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتَهم}، والغَضُّ: النَّقْص كما بيَّنّا عند قوله: {قُلْ للمؤمنين يَغِضُّوا} [النور: 30].
{أولئك الذين امْتَحَنَ اللهُ قلوبَهم} قال ابن عباس: أخلصها {للتقوى} من المعصية. وقال الزجاج: اختبر قلوبهم فوجدهم مُخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي: اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خَلَصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما. وقال ابن جرير: اختبرها بامتحانه إيّاها فاصطفاها وأخلصها للتَّقوى.


قوله تعالى: {إِنَّ الذين ينادونك مِنْ وراءِ الحُجُرات} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.
أحدها: «أن بني تميم جاؤوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادَوْا على الباب: يا محمد اخرُج إِلينا، فإنَّ مَدْحَنا زَيْن وإِن ذَمَّنا شَيْن، فخرج وهو يقول: إنما ذلكم الله، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال: ما بالشعر بُعِثْتُ ولا بالفخَار أُمِرْتُ، ولكن هاتوا. فقال الزبرقان بن بدر لشابً منهم قمُ ْفاذكُر فَضْلك وفَضْل قومك، فقام فذكر ذلك، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثابتَ بن قيس، فأجابه، وقام شاعرُهم، فأجابه حسان، فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلَّم خطيبُنا فكان خطيبُهم أحسنَ قولاَ، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعَر، ثم دنا فأسلم، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللَّغَط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية»، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين. وقال ابن اسحاق: نزلت في جُفاة بني تميم، وكان فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم المنقري، وخالد بن مالك، وسويد بن هشام، وهما نهشليَّان، والقعقاع بن معبد، وعطاء بن حابس، ووكيع بن وكيع.
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريَّة إِلى بني العنبر، وأمَّر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما عَلِموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، فجاء رجالُهم يَفْدون الذَّراري، فقَدِموا وقت الظهيرة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائل، فجعلوا: ينادون يا محمد اخْرُج إِلينا، حتى أيقظوه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثالث: أن ناساً من العرب قال بعضهم لبعض: انطلِقوا بنا إِلى هذا الرجُل، فإن يكن نبيّاً نكن أسعد الناس به، وإِن يكن ملِكاً نعش في جناحه، فجاؤوا، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فنزلت هذه الآية، قاله زيد بن أرقم.
فأمّا {الحجرات} فقرأ أُبيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد وأبو العالية، وابن يعمر، وأبو جعفر وشيبة: بفتح الجيم؛ وأسكنها أبو رزين، وسعيد بن المسيب، وابن أبي عبلة؛ وضمها الباقون. قال الفراء: وجه الكلام أن تُضمَّ الحاء والجيم، وبعض العرب يقول: الحُجُرات والرُّكبات، وربما خفَّفوا فقالوا: {الحُجْرات}، والتخفيف في تميم، والتثقيل في أهل الحجاز. وقال ابن قتيبة. واحد الحُجُرات حُجرة، مثل ظُلْمة وظُلُمات. قال المفسرون: وإنما نادَوا من وراء الحُجرات، لأنهم لم يعلموا في أيّ الحُجَر رسولُ الله.
قوله تعالى: {ولو أنَّهم صَبَروا حتى تخْرُجَ إِليهم لكان خيراً لهم} قال الزجاج: أي: لكان الصَّبر خيراً لهم. وفي وجه كونه خيراً لهم قولان:
أحدهما: لكان خيراً لهم فيما قَدِموا له من فداء ذراريهم، فلو صَبَروا خلَّى سبيلهم بغير فداءٍ، قاله مقاتل.
والثاني: لكان أحسنَ لآدابهم في طاعة الله ورسوله، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {واللهُ غفورٌ رحيمٌ} أي: لمن تاب منهم.


قوله تعالى: {إِن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبيَّنوا} نزلت في الوليد بن عقبة، بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى بني المصطلق ليِقَبْضِ صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فسار بعضَ الطريق، ثم خاف فرجع فقال: إِنهم قد منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البَعْثَ إِليهم، فنزلت هذه الآية. وقد ذكرتُ القصد في كتاب المُغني وفي الحدائق مستوفاة، وذكرتُ معنى {فتبيَّنوا} في سورة [النساء: 94]، والنَّبأ: الخبر، و{أنْ} بمعنى لئلاً، والجهالة هاهنا: أن يجهل حال القوم، {فتُصْبِحوا على ما فَعَلْتم} من إِصابتهم بالخطأِ {نادمين}.
ثم خوَّفهم فقال: {واعْلَموا أن فيكم رسولَ اللهَ} أي: إِن كَذَبتموه أَخبره اللهُ فافتُضِحْتُم، ثم قال: {لو يُطِيعُكم في كثيرٍ من الأمر} أي: ممّا تخبرونه فيه بالباطل {لَعَنِتُّم} أي: لَوَقَعْتُم في عَنََتٍ. قال ابن قتيبة: وهو الضَّرر والفساد. وقال غيره: هو الإِثم والهلاك وذلك أن المسلمين لمّا سَمِعوا أن أولئك القوم قد كَفَروا قالوا: ابْعَثْ إِليهم يا رسولَ الله واغْزُهم واقْتُلهم؛ ثم خاطب المؤمنين فقال: {ولكنَّ الله حَبَّب إِليكم الإِيمان} إِلى قوله: {والعِصيانَ}، ثم عاد إِلى الخبر عنهم فقال: {أولئك هم الرّاشدون} أي: المهتدون إِلى محاسن الأُمور، {فَضْلاً من الله} قال الزجاج: المعنى: ففعل بكم ذلك فضلاً، أي: للفضل والنّعمة.

1 | 2 | 3